في هذه المقالة نحن معنيون بالدرجة الأولى بالتعليم الأساسي، وعلى الأخص المرحلة الابتدائية منه.
دواعي إلقاء نظرة متفحصة على التعليم الأساسي هي التغيرات التي أدخلت في أدوات وأمكنة ووسائل ومناهج هذا التعليم خلال الخمسة أشهر الماضية في كل بقاع العالم، وذلك بسبب الالتزام بمختلف متطلبات مواجهة فيروس كورونا.
فجأة أصبحت أداة التعليم ليس حجرة التعليم، كما كان سابقاً، وإنما وسيلة التواصل الاجتماعي، وحل البيت مكان المدرسة، وتعاظم دور الأهل في العملية التعليمية-التعلمية، بينما تراجع دور المعلم، وأدخلت بسرعة فائقة تغييرات في المناهج الدراسية لتتلاءم مع متطلبات استعمال الكمبيوتر ومع طبيعة التفاعل والمناقشة والاستيعاب الملائمين لأجواء التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي مع أطفال صغار السن ومع شباب مراهقين قليلي الخبرة.
كل ذلك كان ضرورياً؛ بل إلزامياً أملته قوانين وتوجيهات ومحاسبات حجر لكافة الناس تقريباً في مساكنهم؛ بل وأحياناً في غرفهم.
ما حدث كانت له إيجابياته، ولكن كانت له سيئاته أيضاً. وما يهمنا هو ميل البعض لنقل الوضع التعليمي والتربوي المؤقت إلى وضع دائم بحجة قلة تكاليفه بالنسبة للبعض ووجود بعض جوانب الكفاءة بالنسبة للبعض الآخر.
من هنا أهمية محاججة هذه الفئة والتحذير من مغبة ما يدعون إليه للإبقاء على النمط التعليمي المؤقت، الذي فرضته على العالم ظروف بالغة الخطورة والتعقيد.
أولاً، نحن على وعي تام بالنواقص الكثيرة في أنظمة وفلسفات وأساليب التعليم الأساسي الذي سبق مجيء الوباء والإصرار على تبني المشهد التعليمي الحالي. لكن سد تلك الثغرات ومعالجتها ليس بتبني نظام تعليمي مؤقت، هو الآخر مملوء بالثغرات ونقاط الضعف الشديدة. فالمطلوب هو مراجعة الألاف من الكتب والمؤتمرات والتجارب التي طرحها دعاة الإصلاح التعليمي والتربوي عبر سنين طوال، وأخذ الكثير من المقترحات الإصلاحية التي تزخر بها تلك الأدبيات.
لقد كتب الكثير عن أهمية تمهين التعليم وما يترتب على ذلك من تغييرات جذرية في إعداد المعلمين النظري والعملي، وعن جعل التعليم عملية إبداعية تفاعلية بدلاً من كونها تلقينية وحشواً للمعلومات، وعن إصلاح أنظمة تقييم الطالب والامتحانات، وعن دمقرطة أجواء المدرسة والصف لتكوين شخصية مستقلة ومسؤولة ومتسامحة في الفكر والسلوك والقيم الاجتماعية. كل ذلك وأكثر لا يزال ينتظر الأخذ به ليصبح التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد مكملاً لتلك الإصلاحات وليس نافياً لأهميتها ومركزيتها.
ثانياً، إن مهمة التعليم ليست فقط إدخال التلميذ في عالم المعلومات والمعرفة وتدريبه على بعض المهارات المطلوبة في سوق العمل. إن المطلوب أكثر من ذلك بكثير، فالمدرسة يجب أن تكون أداة تغيير وتجديد ثقافي وشحذ وبناء التزامات وطنية وقومية وإنسانية. وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال عمليتي تفاعل إبداعي بين الطالب وزملائه، وبين الطالب ومعلمه.
ثالثاً، من هنا الأهمية القصوى لإعداد المعلم الممتهن التربوي من جهة والمثقف ثقافة إنسانية واسعة من خلال استيعابه لشتى العلوم الاجتماعية والفلسفية من جهة أخرى، وليكون واعياً بمسؤوليات التزاماته كأداة من أدوات التغيير الثقافي والاجتماعي.
وبالطبع، فإن المعلم لا يستطيع أن يقوم بتلك المهمات من خلال التواصل الإلكتروني وإنما في الأساس من خلال التفاعل الخلاق في الصف مع تلاميذه.
رابعاً، والأمر نفسه ينطبق على الأهمية القصوى لتفاعل الطالب مع زملاء الصف والمدرسة لإنضاج شخصيته الاجتماعية وللتعود على الأخذ والعطاء والتسامح في أجواء ديمقراطية حميمية مقنعة. ولا يمكن هنا إغفال أهمية أجواء اللعب والفرح وعلاقات الصداقات التي لها أدوار مفصلية في تكوين شخصية الأطفال واليافعين.
وبالطبع فإن كل ذلك لن يتحقق من خلال التعلم عن طريق الكمبيوتر والتعلم عن بعد.
ولذلك فإن المسؤولية المفصلية، التي تعلو فوق كل مسؤولية، للعملية التعليمية- التعلمية هي في بناء الشخصية الإنسانية والوطنية المتكاملة ذهنياً ونفسياً وروحياً، وفي السمو بقيم الفضيلة والإخاء الإنساني.
الكمبيوترات والروبوتات والذكاء الاصطناعي يمكن أن تساعد لا بل لها دور كبير، لكن لا يمكن أن تحل محل المعلم والزملاء والصف والمدرسة.