في مثل هذه الأيام منذ ثلاثين سنة، في خريف 1989، وجدت نفسي أمام بوابة براندبرج في برلين الشرقية مطلًا على «الغرب».. كنت في إجازة صيفية مطولة عندما وصل الخريف الشمالي. وسط الغيوم، تأملت البوابة وقت الغروب، مع الجموع الملاصقة لحاجز حديدي فصلها، بطول ملعب كرة قدم تقريبا، عن البوابة المضاءة بنور أصفر ساطع، مسلط عبر السقيع. تأملتها معهم وسط السكون، الذي لم تحركه إلا دَبَّات أحذية حراس البوابة، ذوي الخطوات، و«البلاطي»، الثقيلة.
على عكس الجموع الألمانية الشرقية المحبوسة، كان لديّ جواز سفر أجنبي، وتأشيرة تمنحني حق العبور لبرلين «الغربية».. حتى إذا كانت البوابة مغلقة منذ 1961، كنت أستطيع عبور نقاط تفتيش اشتهرت أسماؤها خلال الحرب الباردة، مثل نقطة «شارلي».. وشوارع، مثل «فريدريكشتراسِه»، ما زالت أسماؤها تثير الرهبة عند من يتعرف على ما ارتبط بها من مناظر- مثل منظر الشاب بيتر فيشتر، الذي نجح في اقتحام معظم العوائق، لكنه مات بعد أن أصابه رصاص الحراس عند الحائط الثاني (نعم، كان هناك حائطان). ثم تركوه ملقى على الأرض، لينزف حتى الموت أمام عدسات الصحفيين الغربيين، الذين مُنعوا من انتشاله للجانب الآخر.. صور هذا الشاب حاضرة في ذهني، منذ ثلاثين سنة بعد مشاهدتها في متحف «تشيبوينت شارلى» الملاصق لمكان نقطة التفتيش من الناحية «الغربية».. طاقم حراسة أسوار برلين تَكَوَّن من اثني عشر ألف جندي، قتلوا على الأقل مائة وربما ألفًا عبر السنين.
قتلوا خلال محاولة اقتحام واحة للحرية محاصرة بحوائط.. فبرلين «الغربية» لم تكن في الغرب الألماني. كانت بؤرة يسيطر عليها «المعسكر الغربي» (تحت قيادة أمريكية) داخل ألمانيا الشرقية، الهروب لم يكن من الشرق الجغرافي، إنما من المعسكر السياسي «الشرقي»، تحت قيادة الاتحاد السوفيتّي المنهار.. المثير للسخرية السوداء أن الحائط كان يحيط ببرلين الغربية المحاصرة: الهاربون كانوا يريدون الدخول في حماية حضن الحاجز وليس الهروب خارجه؛ باجتيازه كانوا يريدون دخول الليبرالية. قُتِلوا عندما أصاب النظام الذعر نتيجة هجرة الجموع له، حوالي 3.5 مليون مواطن ألماني شرقي كانوا قد «طفشوا» بالفعل للغرب، أي نحو 20% من تعداد إجمالي السكان، أو واحد من كل خمسة، ووصل العدد إلى ألف في اليوم. معظم هؤلاء كانوا من المتعلمين، والمهنيين ذوي الكفاءات العالية (أطباء، مهندسين، محامين...)، مما جعل النزيف مميتًا. الحاجز كان ضروريًا لإنقاذ النظام المكروه، وحجم الكراهية يتطلب أن يكون عقاب هجرته رادعا. لكن لماذا كل هذه الكراهية؟ السؤال يبدو محيرًا، لأن معظم الهاربين من هاجرى النظام كانوا من النخب ميسورة الحال.. هذا حتى حسب ملاحظات يورى أندروبوف، مدير العلاقات الدولية للحزب الشيوعي السوفيتي وقتها (وسكرتير عام الحزب فيما بعد)، الذي استنتج، في خطاب أرسله للجنة المركزية للحزب عام 1958، أن أسباب الهروب لم تكن عامة اقتصادية. الحقيقة أن بين من حاولوا اقتحام الحاجز المنيع- عازمين اجتياز، حقول المسامير المثبتة والأسلاك الشائكة المكهربة وموانع الدبابات، وكلاب الحراسة والكشافات والرشاشات المسلطة بين الحائطين في نوبات من العدو العصبي - الكثير منهم لم يبحث عن مجرد الرفاهية المادية، بل عن شيء آخر، كان يبحث عن اختراع من ابتكارات عصر التنوير الأوروبي؛ اختراع لم تعرفه المجتمعات القبائلية التقليدية، في أوروبا أو غيرها: كانوا يبحثون (فعليًا أو ضمنيًا) عن تجسيد فكرة الفرد الحر المستقل، ذي الذات الداخلية التي تحدد وتحرك نمط حياته على أساس اختيارات حرة، نابعة عن عقل مستقل، بعيدًا عن التسلط الأبوي للدولة، لا سلطة عليه إلا بالإقناع، ولا تسلط بهالات ميثولوجيا الهيبة المصطنعة.
النظام الشيوعي الشمولي حاول إحياء قبائلية ما قبل التنوير، بتجسيدها في الدولة الحديثة، وبذلك إلغاء فكرة الفرد المستقل، تحت شعار حماية أمن ومصالح للجماعة العليا.. فعزم هذا الفرد الهروب ليجد نفسه في أحضان نظام سياسي ليبرالي، اِعتَرَفَ بأنه متوج بعقل تنبع منه ذات يجب أن تُحترم.. هكذا أُطلق وجذب «الغرب» العقول والمهارات؛ فتفوّق.
مقال للكاتب "عمرو الزنط". جريدة المصري اليوم بتاريخ 26 أكتوبر 2019.