ظاهرة تَسْطِيح الوعي في العالم العربي

تُعَدُّ ظاهرة "تَسْطِيح الوعي" في العالم العربي من أبرز الظّواهر التي أنتجتها الأنظمة العربيّة الحاكمة، والّتي بدأت في الظّهور بعد ثورات التّحرّر العربيّة في خمسينيّات وستّينيات القرن الماضي، وما زالت قائمة حتى يومنا هذا، والهدف منها تعطيل أهمّ مصادر الوعي والإدراك لدى الإنسان، وهو العقل، من خلال حَشْوِهِ بِمُفْرَدَات وأكاذيب وأوهام تُحَوِّلُه من إنسان إلى حيوان، وتحويل الشّعب إلى مجرّد "قطيع" خائر القوى، يتقبّل الفقر والجوع والفساد والجهل كَقَدَرٍ إِلَهِيٍّ مَحتوم، وتبرئة الحاكم الفاسد مِنْ أيِّ دَوْرٍ في ذلك، بل فهذا الحاكم الفاسد يجب طاعته في كلّ الأحوال وعدم الخروج عليه "حتى وإن جَلَدَ ظهْرَك ونَهَب مَالَك".

وللأسف الشّديد، فإنّ ظاهرة "تسطيح الوعي" حُشِد لها مَنْ يُفْتَرَضُ بِهِم نَشْرُ الوعي وتَنْوِيرُ الجماهير في مختلف المجالات، وليس في مجال السِّياسة أو الدِّين فقط، حيث تحوّلوا إلى "حَمَلَة مباخر" ومُنَافِقِين في بلاط السُّلطان، فنرى علماء دين ودعاة وخُطَباء ومُثَقَّفين ومُفَكِّرين وصُحُفِيِّين وكُتَّابًا انخرطوا في حملات تسطيح وعي الجماهير، ويُسَبِّحُون في ذات الوقت بِحَمْدِ السُّلطان وما يُسَمُّونَه حنكته وقدرته الفَذّة على قيادة البلاد، ويصفون خطاباته كلّها بأنّها تاريخيّة، وقراراته تاريخيّة وحكيمة وجريئة، وإنجازاته تتحدّث عن نفسها ولا حاجة ليتحّدث هو عنها، وهكذا.

ولعلّ الجميع يتذكّر بعض المفردات الّتي كان -وما زال- يُردِّدها علماء دين وخطباء مساجد باستمرار، وهي أنّ "المال" أو "النقود" وَسَخُ الدُّنيا، وأنّ الفقر والجوع أفضل من الغنى والمال الّذي قد يُفْسِد الإنسان ويُلْهيه عن ذِكْرِ الله، ويجعله يرتكب المعاصي والآثام. وهذا الخطاب، الّذي كان وما زال يشجّعه الحكّام الفاسدون، الهدف منه التَّنَصُّل من مسؤوليّاتهم أمام الرّعيّة، وإقناعهم بأنّ الفقر أفضل لهم من غِنًى يطغيهم، وأنّ ما هم فيه من بؤس وفقر فهو مُقَدَّر ومكتوب لهم من عند الله وهم ما زالوا في بطون أمهاتهم، ويتحاشون ذكر الثّروات العامّة ودَوْرَ الدّولة تجاه رعاياها، وخاصّة الفقراء والمساكين، وذلك حتّى لا ينزعح الحاكم المُسْتَبِد، الّذي ينهب ثروات البلاد هو وعائلته، ويدعو أبناء الشّعب إلى وجوب طاعته حتّى وإن جلد ظهورهم ونهب أموالهم.

وإذا كان بعض علماء الدِّين والدُّعاة وخُطَباء المساجد يقومون بدور إقناع المواطنين بتقبّل الفقر والجوع، فإنّ المُثقَّفِين والإعلاميِّين يتحدّثون عن المُنْجَزات والمشاريع العملاقة الّتي حقّقها الزّعيم أو الرّئيس أو الملك لأبناء الشّعب، ويصفونه بأنّه العين السّاهرة على مصالح الشّعب، وأنّه الأب الحنون، الّذي يتمّ التقاط صورة له وهو يحتضن طفلة، أو يتحدّث مع عجوز كبير في السِّن...

وإذا ما ظهرت قوى حيّة وفاعلة في المجتمع، وبدأت تنشر الوعي بين المواطنين حول حقوقهم السياسية، وتُبَصِّرُهُم بفساد الحاكم وطغيانه، وتدعو إلى الدّيمقراطيّة والنضال السلمي، وتنتقد انتهاك الحقوق والحريّات، وتطالب بمحاسبة الفاسدين، ووضع حدٍّ لمشاريع توريث السّلطة، فإنّها سرعان ما تواجه بقمع وإرهاب النّظام الحاكم ومعاونيه من مُثقَّفِين وعلماء دين وإعلاميّين وغيرهم من "حَمَلة المباخر" في بلاط السُّلطان، وتُتَّهم هذه القوى بشتّى التُّهم ويُنَكَّل بها بِأشَدِّ أنواع التَّنكيل، لأنّها طالبت بالديمقراطيّة الحقيقيّة، وبحقوق المواطنين المغلوبين على أمرهم، وبوضع حَدٍّ للفساد والإستبداد.

الكاتب: عبد السلام قائد
المصدر: مدوّنات الجزيرة