رغم اختلال الموازين

رغم اختلال الموازين

في عصرِ السُّرعةِ ، فقدَتِ الحياةُ بهجتَها، واللَّحْظَةُ رونَقَها، وسادَ جوٌّ من التَّنافُسِ وأصبح الكلّ يجري، وفي الطَّريقِ يلْهَثُ، ولا يجد لحظةً لالتقاطِ أنفاسِه.
في حَلْبةِ السِّباق هَذِهِ، ضاعَتِ القيمُ واختلّتِ الموازين، وغابَ الفرقُ بين الجوهري والشَّكلي، بين الأساسي والثانوي، الضَّروري والكمالي، المفيد والمؤذي، الصالح والطالح، الحق والباطل، الخير والشّر، الحقيقي والافتراضي، الواقعي والخيالي، العلم والحلم. فسباق الحياة أفقَدَنا الحسّ والتّمييز. بات الهمّ الوحيد تحقيق الذّات، والإنجاز، والمكسب، وامتداح الناس، ورغد العيش، والرَّفاهية.
كلّ طموحي ودوافعي وسبب غضبي وغيظي وانفعالي نابع من حرصي على صورتي أمام الناس. وأن ينمّ شكلي عن تقوى وغنى ونظافة وترتيب رغم بُعدي عن الله وإفلاسي وخبث قلبي وإهمالي. ترتسم الابتسامة على وجهي رغم كآبتي وحزني وغمّي.
في وسط هذا الهيجان والفوضى الداخليّة والبلبلة الفكريّة، علا صوتٌ خافتٌ، اخترق وجداني، وأيقظني من سباتي، صوتٌ يبحثُ عنّي، يناديني باسمي، يهتمّ لأمري، صوتٌ مألوف ذكّرني في حنوّه بصوت أمّي، وفي حرصِهِ بصوت أبي، وفي اهتمامه بي بصوت صديقي. قال لي:
"تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ".
كانَ ذلك الصوت بمثابة دعوة للخروج من دائرة السّباق المُضني ومن إطار الزمن. لكنّ الصَّوت بهرني، ولم أستطعْ مقاومتَه، شعرتُ بصدقِهِ واهتمامهِ. بدا وكأنّه يعرفني أكثر من معرفتي لنفسي، ويدرك ما يخالجُني من مشاعر ويعتصرُني من ألم.
توجّهتُ ناحية الصوت وإذ بي أجد مائدةً معدّةً خصّيصًا على شرفي، جلستُ وأكلتُ كما لم آكل من قبل. أكلتُ بنهمٍ غير معهود، وأدركتُ كم كنتُ جائعًا.
ثمّ استلقيتُ وشعرتُ وكأنّ أحمالاً ثقيلة تتساقط عن كاهلي، وغمامة تُزاح عن عينيّ فتوضّحت الرؤيا، واستعدتُ البصر وأدركتُ كم كنتُ أعمى.
بعدئذٍ انفرجت أساريري وضحكتُ كما لم أضحك من قبل، فقد زال الثقل الّذي لطالما سكن قلبي ونغّص حياتي.
بعد ذلك التّغيير العجيب، تقويّتُ وتشدّدتُ وعُدتُ إلى دائرة السباق لكن بدوافع ومشاعر مختلفة، لم يعد همّي أن أنافس وأكسب بل أن أدعو المتسابقين الآخرين إلى واحة الرَّاحة ليختبروا ويعيشوا ما عشتُه.
عزيزي ذلك الصّوت الخافت نفسه يناديك، يدعوك للرَّاحة والهدوء والشّبع وتجديد القوة، واستعادة البصر، فاخرج من دائرة السّباق المُضني إلى دائرة السباق الجديدة بدوافعها الجديدة، وثق أنّه لن يفوتك شيء.
Dardasha7.com
لمعرفة المزيد، راسلونا على dardasha7@gmail.com