من شرفة الميدان!

مرثا بشارة
الحوار المتمدن-العدد: 5967 - 2018 / 8 / 18 - 18:23
المحور: المجتمع المدني

لم أكن أعرف أن الإنتقال للسكن من ذاك الحي الهاديء حيث الإنعزال والسكينة يختلف كليا عن السكن في قلب الميدان!
كلما نظرت من تلك الشرفة العالية، أرى عالما ينبض بالحياة! شوارع تتفرع يمينا ويسارا، شرقا وغربا وكأنها شرايين تحمل في مجراها المئات من صنوف البشر، من يقود سيارته الفارهة بطيش ومن تقود سيارتها وهي تشعر بالفخر وكأنها تمتلك شيئا مميزا حُرمت منه الأخريات، ومن يقود سيارة متواضعة وهو لا يبتغي سوى أن تحميه من عذاب استخدام المواصلات العامة، شباب يتسابقون بالدراجات، وعمال بسطاء مجبورين على ركوبها لتوصيل الطلبات! أما من لا يملكون غير السير على الأقدام فهم كُثر، خطوات بطيئة تخطوها أقدام تحمل أما عجوز تستند على كتف ابنها الشاب، وخطوات ثقيلة لرجل بدين مُسن، خطوات مسرعة لشاب مفعم بالحيوية والنشاط وخطوات مرحة لأطفال يضحكون ويصرخون في براءة لم تختبر قسوة الحياة بعد!

ثم أنظر لتلك الحديقة المستديرة في وسط الميدان فأراها توجه مسارات كل هؤلاء البشر في صمت! فالجميع ملتزمون بالطواف حولها وهم غير مدركون أنهم يسيرون وفق قانونها في السير، ملزومون باتباع مساراتها حتى ولو لم يروق لهم فعل ذلك، ومن يتعدى قانونها ولو لثوانٍ معدودة يصنع أزمة سير تضعه موضع الاتهام والنفور تجبره على الانصياع لقانون الحديقة المستديرة!
لكن تلك الحديقة الصارمة، تحمل تحت أشجارها ظلا يأوي إليه الكثيرون هربا من قيظ الشمس وطلبا لبعض الراحة لأقدامهم المتعبة، وعند غروب الشمس تُحال الحديقة متنزها يقصده حفنة بشر من ساكني الاحياء القريبة ممن لا تحتمل جيوبهم نفقات الذهاب للكفيهات والمطاعم، ينمّون، يضحكون، يشكون همومهم، يشاركون أحلامهم، يثرثرون حتى يذهب بهم الوقت إلى منتصف الليل، وهنا تظهر حفنة أخرى من بشر يتعبون ويشقون طريق الحياة بعصوباته دون أن يلتفت لهم أحد، إنهم عمال النظافة الذين يجرّون صناديقهم ويحملون جواريفهم ومقشاتهم لتنظيف الميدان غير منتظرين لشكرٍ أو ثناءٍ من سكانه الذين يقضي أغلبهم ليله مستريحا مترفا غير عابيء لتلك الخدمة العظيمة التي يقدمها له جنايني في تقليم وتجميل الحديقة او عامل نظافة يحافظ على نظافة الميدان ومظهره الحضاري.

كل هذا السيناريو يحدث في واحد من ميادين القاهرة، وأظنه يتكرر في غالبية ميادينها وميادين مصر، بل وحتى الكثير من الميادين في الدول العربية، كل هذه المشاهد أراها في ذات اللحظة من تلك الشرفة المطلة على قلب الميدان! وهذا ما يأخذ عقلي ويـأسر قلبي وأنا أفكر كم هو عظيم ذاك الخالق الذي له عينان لا ترى فقط حفنة بشر مجتمعة على اختلاف فئاتها بقلب ميدان، بل تكشفان حتى أستار الظلام ذاك الخالق الذي بيده كل دروب البشر وخفايا قلوبهم، وأفكر هل من فاهم طالبا لله؟! وأتذكر قول النبي المرنم داود: إن كنت تُراقب الاثام يا رب يا سيد فمن يقف‏؟! لأن عندك المغفرة لكي يُخاف منك.